غلاف "تنفس صناعي"
هذا عمل أدبي فريد عصي علي التصنيف رغم أن المؤلف والناشر يقران علي
الغلاف بأنه رواية، لكنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك! العنوان الفرعي
للكتاب «ذكريات باشمهندس أجهزة طبية»، هو أقرب تصنيف للعمل الدسم الذي
يؤكد مؤلفه في صفحات المقدمة أنه يقدم هذه الذكريات بعد أن قام بـ
«تنظيفها من زيوت تشحيم الآلات الطبية وقاذورات المستشفيات الحاملة
للجراثيم، وبعد أن أضفت إليها بعض البهارات الفنية التي تتطلبها حرفة
الأدب». سنعرف من صفحات «تنفس صناعي» أن الأحداث التي يضمها وقعت في
الفترة من 1982 و1997 عندما كان لا يزال المؤلف يعمل مهندس أجهزة طبية قبل
أن يتخلص من هذه المهنة وآثارها ويتفرغ أخيرًا للكتابة، لكن تلك السنوات
كانت ثرية وفياضة وموحية بدرجة جعلته يسجل بعضًا منها بأسلوب ساحر ساخر
إنساني عميق في ذات الوقت، يجعل من قراءة الكتاب متعة حقيقية بالفعل، وذلك
رغم أن «تنفس صناعي» يفتقر للتسلسل الزمني المعتاد، كما أن فصوله أشبه
بحلقات درامية منفصلة متصلة بطلها شخص واحد هو المؤلف أو الباشمهندس أو
الشاعر أو كل هؤلاء معًا. الحوار خفيف الظل المستند إلي العامية الذكية،
هو عماد غالبية فصول الكتاب، وهو ما أضفي عليه حيوية وصدقًا وروحًا خاصة،
خذ مثلاً ذلك الحوار الذي يدور بين الباشمهندس وبين صاحب مستشفي في إحدي
قري الدلتا ذهب إليه لإصلاح جهاز تنفس، ثم فوجئ بأن الجهاز الجديد بحالة
الفابريقة فانطلق يسأل: «هو حضرتك بتدي لكل عيان نفسين ع الماشي، وبعدين
تشيله من ع الجهاز؟!، ضحك عاليًا وهوي بكفه الضخم علي كتفي ممازحًا، أوشكت
معه علي الانهيار، قال:- دمك شربات.. لا لا لا.. إحنا أصلا ما بنحطش
عيانين علي الجهاز ده إلا في الشديد القوي! وبصراحة الأسبوع اللي فات كانت
أول مرة نستعمله من حوالي سنتين!»، لكن الأمر لا يقف عند حدود السخرية
فحسب لكن خلف ذلك وفي كل موقف مشابه يكتشف الباشمهندس حقيقة توجع القلب:
«المستشفي العام الذي يرسلون إليه بحالات الفشل التنفسي لا يستخدم هذه
الأجهزة هو الآخر!بل يبيعها بعد سنوات في المزاد «كهنة» بحالة المصنع!
ليقوم الأطباء المحليون بشرائها بأسعار بخسة بينما تعلن الوزارة بعدها
بمنتهي الهبل والكرم عن إجراء مناقصات جديدة، لشراء أجهزة أحدث لا تستخدم
بدورها لكي تباع بعد ذلك بسنوات بحالة الفابريقة في مزادات التكهين!».
الكتاب بأكمله تغلفه لمحة ذكاء من البطل في طريقة تعاطيه مع المواقف
الصعبة التي واجهته أثناء عمله، وهذا نهج يعجب القراء المخضرمين كثيرًا،
لأنه لا يعطيهم متعة مضاعفة في القراءة فحسب، وإنما يمدهم بمعلومات جديدة،
وهكذا من مستشفي لآخر، ومن أعماق الدلتا إلي المدن الساحلية وحتي جنوب
لندن، تتوالد الحكايات والأحداث المروية بطريقة فائقة المتعة والانسيابية،
وبتفاصيل إنسانية شفافة تتطل برأسها من أجهزة التنفس الصناعي والتخدير،
حتي تصل إلي الذروة في خاتمة الكتاب «شفرة دخول»، وفيها يحكي المؤلف
اللحظات الأخيرة في حياة الشاعر الكبير «صلاح جاهين» من وجهتي نظر شديدتي
التناقض والقرب، الأولي أن جاهين كان يتعامل معه كابنه متحمسًا لأشعاره،
والثانية باعتباره مهندس أجهزة طبيبة تدخل ذات يوم لضبط جهاز التنفس الذي
يمد جاهين بالهواء في أيامه الأخيرة بالمستشفي، حتي إنه عندما يأتيه ذات
يوم مقبضًا يجد أخت جاهين الحاجة سامية تقابله بعين دامعة قائلة :"قبل
النبض ما ينقطع خالص لقيت فجأة جهاز مراقبة القلب كتب علي الشاشة رقم
111.. قمت اتشاهدت في ودنه.. يا حبيبي يا آبيه صلاح»، وعبثا سيحاول
الباشمهندس تفسير معني ذلك الرقم 111، الذي يبدو غير منطقي علي الإطلاق
لأن يكون نبضات قلب شخص يغادر الدنيا، قبل أن يصل في النهاية إلي تصور
مفاده: «كنت- ومازلت- أتمني أن اكتشف بأحد كتيبات أجهزة مراقبة القلب فقرة
في جداول تفسير الشفرات: عندما يتوقف قلب المريض ويستقر عدد النبضات علي
الرقم 111.. أعلم أن تلك هي شفرة عبوره بسلام إلي الفردوس». خاتمة عميقة
المغزي تسكن في القلب وتليق بكتاب «حقيقي» لا تغادره سطوره الذاكرة والروح
أبدًا.
هذا عمل أدبي فريد عصي علي التصنيف رغم أن المؤلف والناشر يقران علي
الغلاف بأنه رواية، لكنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك! العنوان الفرعي
للكتاب «ذكريات باشمهندس أجهزة طبية»، هو أقرب تصنيف للعمل الدسم الذي
يؤكد مؤلفه في صفحات المقدمة أنه يقدم هذه الذكريات بعد أن قام بـ
«تنظيفها من زيوت تشحيم الآلات الطبية وقاذورات المستشفيات الحاملة
للجراثيم، وبعد أن أضفت إليها بعض البهارات الفنية التي تتطلبها حرفة
الأدب». سنعرف من صفحات «تنفس صناعي» أن الأحداث التي يضمها وقعت في
الفترة من 1982 و1997 عندما كان لا يزال المؤلف يعمل مهندس أجهزة طبية قبل
أن يتخلص من هذه المهنة وآثارها ويتفرغ أخيرًا للكتابة، لكن تلك السنوات
كانت ثرية وفياضة وموحية بدرجة جعلته يسجل بعضًا منها بأسلوب ساحر ساخر
إنساني عميق في ذات الوقت، يجعل من قراءة الكتاب متعة حقيقية بالفعل، وذلك
رغم أن «تنفس صناعي» يفتقر للتسلسل الزمني المعتاد، كما أن فصوله أشبه
بحلقات درامية منفصلة متصلة بطلها شخص واحد هو المؤلف أو الباشمهندس أو
الشاعر أو كل هؤلاء معًا. الحوار خفيف الظل المستند إلي العامية الذكية،
هو عماد غالبية فصول الكتاب، وهو ما أضفي عليه حيوية وصدقًا وروحًا خاصة،
خذ مثلاً ذلك الحوار الذي يدور بين الباشمهندس وبين صاحب مستشفي في إحدي
قري الدلتا ذهب إليه لإصلاح جهاز تنفس، ثم فوجئ بأن الجهاز الجديد بحالة
الفابريقة فانطلق يسأل: «هو حضرتك بتدي لكل عيان نفسين ع الماشي، وبعدين
تشيله من ع الجهاز؟!، ضحك عاليًا وهوي بكفه الضخم علي كتفي ممازحًا، أوشكت
معه علي الانهيار، قال:- دمك شربات.. لا لا لا.. إحنا أصلا ما بنحطش
عيانين علي الجهاز ده إلا في الشديد القوي! وبصراحة الأسبوع اللي فات كانت
أول مرة نستعمله من حوالي سنتين!»، لكن الأمر لا يقف عند حدود السخرية
فحسب لكن خلف ذلك وفي كل موقف مشابه يكتشف الباشمهندس حقيقة توجع القلب:
«المستشفي العام الذي يرسلون إليه بحالات الفشل التنفسي لا يستخدم هذه
الأجهزة هو الآخر!بل يبيعها بعد سنوات في المزاد «كهنة» بحالة المصنع!
ليقوم الأطباء المحليون بشرائها بأسعار بخسة بينما تعلن الوزارة بعدها
بمنتهي الهبل والكرم عن إجراء مناقصات جديدة، لشراء أجهزة أحدث لا تستخدم
بدورها لكي تباع بعد ذلك بسنوات بحالة الفابريقة في مزادات التكهين!».
الكتاب بأكمله تغلفه لمحة ذكاء من البطل في طريقة تعاطيه مع المواقف
الصعبة التي واجهته أثناء عمله، وهذا نهج يعجب القراء المخضرمين كثيرًا،
لأنه لا يعطيهم متعة مضاعفة في القراءة فحسب، وإنما يمدهم بمعلومات جديدة،
وهكذا من مستشفي لآخر، ومن أعماق الدلتا إلي المدن الساحلية وحتي جنوب
لندن، تتوالد الحكايات والأحداث المروية بطريقة فائقة المتعة والانسيابية،
وبتفاصيل إنسانية شفافة تتطل برأسها من أجهزة التنفس الصناعي والتخدير،
حتي تصل إلي الذروة في خاتمة الكتاب «شفرة دخول»، وفيها يحكي المؤلف
اللحظات الأخيرة في حياة الشاعر الكبير «صلاح جاهين» من وجهتي نظر شديدتي
التناقض والقرب، الأولي أن جاهين كان يتعامل معه كابنه متحمسًا لأشعاره،
والثانية باعتباره مهندس أجهزة طبيبة تدخل ذات يوم لضبط جهاز التنفس الذي
يمد جاهين بالهواء في أيامه الأخيرة بالمستشفي، حتي إنه عندما يأتيه ذات
يوم مقبضًا يجد أخت جاهين الحاجة سامية تقابله بعين دامعة قائلة :"قبل
النبض ما ينقطع خالص لقيت فجأة جهاز مراقبة القلب كتب علي الشاشة رقم
111.. قمت اتشاهدت في ودنه.. يا حبيبي يا آبيه صلاح»، وعبثا سيحاول
الباشمهندس تفسير معني ذلك الرقم 111، الذي يبدو غير منطقي علي الإطلاق
لأن يكون نبضات قلب شخص يغادر الدنيا، قبل أن يصل في النهاية إلي تصور
مفاده: «كنت- ومازلت- أتمني أن اكتشف بأحد كتيبات أجهزة مراقبة القلب فقرة
في جداول تفسير الشفرات: عندما يتوقف قلب المريض ويستقر عدد النبضات علي
الرقم 111.. أعلم أن تلك هي شفرة عبوره بسلام إلي الفردوس». خاتمة عميقة
المغزي تسكن في القلب وتليق بكتاب «حقيقي» لا تغادره سطوره الذاكرة والروح
أبدًا.
الجمعة أبريل 16, 2010 3:28 am من طرف kimo
» لو خيروك بين ......وبين...?
الإثنين مارس 22, 2010 3:43 pm من طرف kimo
» لعبة الوردة
الإثنين مارس 22, 2010 10:21 am من طرف ZOOMA
» اختار بصراحة
السبت مارس 13, 2010 1:41 pm من طرف solom
» جبهة علماء الأزهر تنتقد قرار "الإدارية العليا" باستمرار تصدير الغاز المصرى لإسرائيل
الجمعة مارس 12, 2010 10:23 am من طرف ZOOMA
» الحزب الوطني يعلن الحرب على مجلس الدولة
الجمعة مارس 12, 2010 1:36 am من طرف kimo
» حاجة جامدة يا ريت كلكوا تجربوها
الخميس مارس 11, 2010 5:06 pm من طرف ZOOMA
» الصحف الإسرائيلية تتابع تطورات جراحة الرئيس تحت عنوان «دراما مصرية»
الأحد مارس 07, 2010 2:40 pm من طرف ahmed hassan
» نص المشروع المقترح لقانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية
الأحد مارس 07, 2010 2:38 pm من طرف ahmed hassan